العراق وأميركا.. الطريق الطويل لعلاقات سليمة
ابراهيم العبادي
هل يمكن أن تتوازن العلاقات الأميركية العراقية وهي علاقات مختلة من أساسها لظروف موضوعية؟ بمعنى أن دولة (صغيرة) نسبيا كالعراق – قياسا بالولايات المتحدة – تطمح إلى موازنة علاقاتها مع دولة عظمى كأمريكا، وهي التي احتلته في مطالع الألفية الثالثة وخرجت منه عام 2011، بعد أن توصل الطرفان إلى اتفاقية للانسحاب العسكري (صويفا ) واتفاقية للاطار الستراتيجي (2008) تحمي بموجبها واشنطن ديمقراطية العراق الناشئة، وتحمي سماءه وحدوده وأمنه، وتقدم له يد المساعدة الاقتصادية والتكنولوجية والعلمية.
يكثر المتحدثون العراقيون عما يريده العراق من امريكا، كونها احتلت البلاد وتسببت بالصدمة الكبرى، صدمة السياسة والهويات والوعي وانكسار المعادلات السياسية، لكن هناك قليلين من يتحدثون عما تريده أمريكا من العراق!، فلكي تتوازن العلاقات لا بد من اعتماد مبادئ ضرورية في العلاقات الدولية، مبادئ المصلحة المتبادلة، والمصالح المشتركة، فلكل علاقة دوافعها وضروراتها ومحدداتها واشتراطاتها، بإمكان المرء أو الجماعة أن تقول إنني لا أحتاج إلى اقامة علاقة دبلوماسية أو تجارية أو مالية أو عسكرية أو امنية مع طرف مقابل، لكن الدول لا تستطيع أن تتجاهل بعضها أو لا تتعامل معها – ماخلا بعض الاستثناءات -، لأنها جزء أو وحدة من أجزاء ووحدات نظام دولي، يؤثر بعضه في أمن ومجال واستراتيجية البعض الآخر.
جاءت الولايات المتحدة وكوَّنت تحالفا دوليا وجازفت باحتلال العراق دونما تفويض أممي، وبوجود معارضة غربية من اقرب حلفائها (فرنسا وألمانيا) ، وساهمت ببناء نظام سياسي جديد وعهد دستوري وهوية للدولة العراقية مع قدر كبير من المشكلات، التي اضافت إلى مشكلات العراق البنيوية مفاعيل جديدة، ثم انسحبت أمريكا عسكريا بضغط عملياتي وسياسي ودبلوماسي، ليعيد العراق الاستعانة بأمريكا مجددا عام 2014 لمواجهة تنظيم داعش، وتجري الان مفاوضات في بغداد لتنظيم علاقات الطرفين مجددا، بما يلغي الوجود العسكري الظاهر ويدفع بالتعاون إلى افاق جديدة، تستجيب لدواعي بعض الضغوط الداخلية لإنهاء الحضور العسكري والأمني المضر بسيادة العراق.
بيد أن لأمريكا مصالح في العراق تفوق التبادل التجاري وأمن الطاقة ومواجهة الإرهاب والتعاون الاقليمي، امريكا متموضعة في العراق لأهداف أمنية كبرى، فهي لا تريد أن تبدو كمن خسر العراق لصالح غريمتها إيران، ولا تريد للعراق أن يكون جائزة إقليمية تكسبها ايران لصالح استراتيجيتها في المنطقة، فرغم جميع المحددات والظروف التي أخرجت العراق من معادلات القوة والتأثير، يبقى العراق عنصر توازن في علاقات دول ضفتي الخليج، وهو عنصر الاستقرار أو الاضطراب في الشرق الأوسط، اذا اختلت معادلاته الداخلية بين حلفاء ايران واصدقائها وبين حلفاء امريكا الاقليميين والمحليين، العراق يدرك نقاط قوته وضعفه، كما تدرك أمريكا نقاط (ضعف) قوتها ونفوذها، ولكي يخرج العراق من حالة الاستقطاب الداخلي لأطيافه وفئاته ومكوناته، بين نفوذ ظاهر وخفي لكل من إيران والولايات المتحدة، فانه مضطر للسير على حافة الواقعية السياسية، لكي يوازن علاقاته، حفاظا على استقراره السياسي وأمنه الاجتماعي، وسيكون العراق محظوظا ان نجح بالفعل في الخروج من حالة الارتهان لمحددات الصراع الامريكي الايراني، قبل أن يزداد التعقيد بدخول اسرائيل على الخط ثم اندراج قوى المقاومة في الصراع، لقد اصبح العراق جائزة لمن يكسبها ليضيف إلى رصيده عنصر ترجيح كبيرا، بسبب ثقل العراق في الإقليم عموما وفي معادلات الحرب والسلام وأمن الطاقة وأمن الممرات.
الأخطر في موضوع العلاقات العراقية الأمريكية هو ان تقرأ أمريكا العراق بعين إيرانية والعكس صحيح، والأمر أولا وآخر يتوقف على قراءة العراقيين لأنفسهم ودولتهم ودورها السياسي وثقلها الاستراتيجي واحتياجاتها التنموية والاقتصادية وصورتها الخارجية.
فإن قبل العراقيون بصيرورة بلادهم عنصر توازن في المنطقة، تقتضيه مصالح العراق ومشكلاته وضروراته، فذلك يتطلب منهم موقفا واضحا، وإن رفض العراقيون حالة التوازن وقرروا الاندماج في أحد المحورين المتصارعين، فعليهم أيضا أن يدفعوا كلفة هذا الموقف، وهي كلفة معروفة ويسهل حسابها بعد سنوات من الحضور والتأثير المتبادل لكل من ايران وأمريكا في شؤون العراق الداخلية، ومصالحه الاقتصادية وترتيبات امنه المجتمعي واستقراره السياسي.
لقد أصبحت إدارة العلاقات مع كل من الولايات المتحدة ودول الإقليم المتاخمة للعراق تحديا سياسيا واستراتيجيا قبل أن تكون تحديا عاطفيا وعملانيا، بلحاظ ما يحيط بهذه العلاقات من حسابات وقراءات ترتبط بمفاهيم السيادة والاستقلال والقدرة والمصالح.
ستكون إقامة علاقات متوازنة وترتيبات أمنية وعسكرية مستدامة بين العراق والولايات المتحدة اختبارا لقدرة العراقيين على قراءة مصالح بلادهم قراءة موضوعية، وليست قراءة عاطفية، إذ إن نسبة كبيرة من الشارع العراقي لا تكون ودا للأمريكيين لأسباب مختلفة مرتبطة بمزاج وثقافة متجذرة، والامريكان فشلوا في كسب ود الشارع العراقي، رغم نشاط سفارتهم وسفرائهم الكبير، غير أن أيا من الطرفين لا يستطيع تجاهل الحاجة المتبادلة إلى علاقات متينة، والعراق ما زال بحاجة إلى دعم ورعاية الامريكان له، وسط تحديات عديدة في بيئة قلقة ومضطربة، ما يعقد الأمر، ويعيق تحقيق هذه الرغبة عدم استعداد واشنطن لتغيير، بل تقليل دعمها غير المشروط لإسرائيل ما يجعلها شريكة لها في عدوانها وجرائمها، وهو ما يستفز العراقيين بالدرجة الأولى، وباقي العرب والمسلمين الرافضين للغطرسة الصهيونية في
المنطقة.
أمريكا لم تنجح في شق طريقها إلى قلوب العراقيين المقفلة، وأمامها عمل شاق ليكون العراق صديقا لها، مثلما أن أمام العراقيين شوط طويل من الجدل والمناكفات قبل أن تستقر إرادتهم على شكل العلاقة التي يريدونها مع الولايات المتحدة.