رئيس مجلس القضاء الأعلى يكتب عن نفي النسب بين الحكم الشرعي والبصمة الوراثية
رئيس مجلس القضاء الأعلى فائق زيدان
يعتبر النسب اساس الهيكل العائلي في كل مجتمع حيث يرتبط افراد العائلة بصلة وحدة الدم وهي نعمة عظيمة اولاها الله سبحانه وتعالى للمجتمعات البشرية مما جعل موضوع حفظ النسب يحتل مكانة مهمة في نفوس الشعوب ويعد واحد من أهم مقاصد الشريعة الإسلامية.
فاذا حصل خلاف بـــين الزوجين على صحة نسب الطفل لابيه فانه وفقاً لاحكام الشريعة الاسلامية يكون نفي النسب بـ(اللعان) واللعن يعني الطرد والابعاد وفي اصطلاح الفقهاء ما يجري بين الزوجين من الشهادات المؤكدة بالأيمان مقرونة باللعن من جانب الزوج وبالغضب من جانب الزوجة، وقد شُرعّ اللعان لدرء الحد عن الزوج اذا قذف زوجته بدون شهود او اراد نفي نسب الطفل المولود عنه كذلك هو صيانة لعرض الزوجة ودفعاً للحد عنها. فعندما يتهم الزوج زوجته بالزنا بدون ان يأتي بأربعة شهداء على وقوع الزنا ففي هذه الحالة يطلب منه القاضي ان يحلف اربع مرات (بدل الشهود الاربعة) ليدفع عنه حد القذف أنه من الصادقين في دعواه ضد زوجته ثم يحلف مرة خامسة بأن يقول (لعنة الله عليّ ان كنت من الكاذبين) اي فيما اتهم زوجته به من الزنا. وان تقول الزوجة اربعة مرات (أشهد بالله انه لكاذب فيما رماني به من الزنا) وتقول في الخامسة (غضب الله عليّ ان كان صادقا فيما رماني به من الزنا). فإذا تم اللعان بينهما حصلت الفرقة بينهما على التأبيد ويدرأ الحد عنهما وتنتفي نسبة الولد الذي لاعن فيه الزوج زوجته.
أما البصمة الوراثية فإنها تدل على ما يتوارثه الأبناء من ابائهم من صفات تحدد هويتهم وتميزهم عن غيرهم وهي البنية الجينية التي تدل على هوية كل إنسان بعينه وتحدد من خلال البصمة الوراثية الخاصة به عن طريق تحليل جزء من الحمض النووي (D.N.A). وتعد البصمة الوراثية من المستجدات الحديثة في علم الاحياء التي يمكن الاستفادة منها في المجال الطبي والجنائي اضافة الى اهميتها في اثبات او نفي النسب في الجانب الشرعي.
وقد اختلف الفقهاء في حجية استخدام البصمة الوراثية في موضوع نفي النسب حيث ذهب القسم الأول منهم إلى عدم جواز الاعتماد على الحقائق العلمية المعاصرة في نفي النسب اذ لا ينتفي النسب الا باللعان فقط وحجتهم في ذلك الدليل من القران الكريم في قوله تعالى في سورة النور (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ* وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ* وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ* وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِين) ووجه الدلالة أن الآية ذكرت أن الزوج إذا لم يملك الشهادة إلا نفسه فيلجأ للعان وإحــداث البصمة بعد الآيـــة تزّيـــد على كتـــاب الله حيـــث قال الرســول صلى الله عليه واله وسلـم (ومن احدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد). أمـا الحجة الثانية فهي من السنة النبوية الشريفة حيث قال الرسول صلى الله عليه واله وسلم (الولد للفراش وللعاهر الحجر).
اما القسم الثاني من الفقهاء فذهب الى جواز الاعتماد على الحقائق العلمية المعاصرة في نفي النسب وحجتهم من الاية ذاتها بأن اللعان يلجأ اليه الزوج عندما لا يجد الشهود فالبصمة الوراثية اذا وافقت قول الزوج فتكون بمثابة الشهود عند دعوته نفي النسب.
ومن الوقائع العملية عند عملنا في أحدى محاكم الأحوال الشخصية سنة 1999عرضت علينا دعوى نفي نسب طفلة ادعى والدها انها ليست ابنته من زوجته المدعى عليها مستنداً الى تقرير معهد الطب العدلي الذي يتضمن عدم تطابق العوامل الوراثية للطفلة مع العوامل الوراثية للمدعي الزوج وتطابقها مع العوامل الوراثية لزوجته المدعى عليها فقط وكان السبب الذي استند إليه في دعواه هو الشك بعدم نسبة الطفلة إليه كونهــا ولـــدت قبل مضي تسعــة أشهر على تاريخ دخوله بزوجته.
وبعد أن استمعنا إلى حجج طرفي الدعوى توصلنا إلى أن سبب الشك الأساس عند الزوج المدعي هو مدة الحمل كونها اقل من تسعة أشهر لكن بعد مصادقة الطرفين على تأريخ الدخول الحقيقي بينهما وتأريخ ولادة الطفلة وجدنا بعد التدقيق أن مدة الحمل كانت ستة أشهر ولما كانت اقل مدة للحمل هي ستة أشهر بإجماع الفقهاء المسلمون استدلالا بالآيتين الكريمتين الأولى من سورة الاحقاف (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْراً) والآية الثانية في سورة لقمان (وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ) فإذا كانت مدة الفصال وهو الفطام عامين فتبقى للحمل ستة أشهر وهذه المدة ثابتة طبيا ويترتب على ذلك ان نسب الطفل يثبت من ابيه حال قيام الزوجية اذا ولد لستة اشهر او اكثر وليس للزوج أن ينفي نسب الولد خاصة وانه اقر بنسبة الطفلة إليه وهذا ثابت في بطاقة الأحوال الشخصية للطفلة. لذا لم نعتد بالتقرير الطبي وقررنا رد دعوى المدعي الزوج الذي طعن بالقرار أمام محكمة التمييز التي صادقت في حينه على القرار كونه موافق للشرع والقانون.
كذلك نشر موقع الكتروني بعنوان (برلماني) بتاريخ 18 فبراير 2023 حكم قضائي حول نفي النسب عن طريق البصمة الوراثية حيث أشار إلى أن محكمة كفر شكر الجزائية في مصر أصدرت حكماً سنة 2017 برفض دعوى نفي نسب صغير رغم تأكد الأب من عدم انتساب الصغير إليه من خلال إجراء البصمة الوراثية (D.N.A) مستندة إلى أن نفي النسب لا يكون بالإحالة للطب الشرعي ولكن بــ (اللعان) فقط. ويلاحظ أن المحكمة المذكورة استندت إلى نفس الأسباب التي استندنا إليها سنة 1999 بخصوص اقل مدة للحمل وهي ستة أشهر وهو قول الإمام علي ابن أبي طالب عليه السلام الذي قال به الفقهاء من مختلف المذاهب محتجين بالآيتين الكريمتين الوارد ذكرها في قرارانا المشار إليه.
وقد صادقت محكمة النقض المصرية على القرار المذكور وذهبت إلى (أن إحالة الدعوى إلى الطب الشرعي إنما هو اجراء يخالف صحيح القانون الذي اعتد بالمذهب الحنفي كمرجع تشريعي اذا خلا نص قانوني من تنظيم مسألة بعينها فاذا كان الثابت شرعاً نسب الصغير الى ابيه لتحقق الشرائط الشرعية فلا يمكن الارتداد مرة اخرى لنفي ما كان قد ثبت شرعاً لما في ذلك من تعريض لنفي الانساب وفق رغبات الازواج وهو ما لم يقل به احد من الفقهاء على اختلاف ارائهم فاذا قيل جدلاً –وهو قول جدلي لا يصادق صحيح الشرع– بأحقية الزوج المدعي في نفي نسب الصغير فأن ذلك لا يكون بالاحالة الى الطب الشرعي انما يكون باجراء (اللعان) بين الزوجين على نفي نسب الصغير وفي ذلك سنده الشرعي من ايات اللعان الواردة في سورة النور وهي نصوص قطعية الدلالة لا يدخل فيها الاجتهاد مع وضوح النص فيها ولا يدخل فيها ما استحدثه النص العلمي المعاصر من تقنيات يعلمها الله وقت ان شرع في كتابه الكريم ايات (اللعان) واذا كان مقصد العباد حفظ الانساب فان مراد الله في هذا هو اعظم شأناً واكمل علما بما لا يمكن ان يدركه بشر اذا عجز عن اداركه وفي ذلك قوله سبحانه وتعالى (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)).
ويذكر ان دار الافتاء المصرية عندها الرأي ذاته وهو (أن نفي النسب بالبصمة الوراثية لا يجوز شرعاً لان التحاليل يحتمل فيها الخطأ وان دلت على النفي او الاثبات يقيناً فأن ذلك اليقين نفسه يقع الظن في طريق اثباته مما يجعله غير معتد به شرعاً في نفي النسب).