وسط احتفاء حكومي بمرور ربع قرن على رحيل شاعر العرب محمد مهدي الجواهري، استعادت الأوساط الثقافية والأدبية بهذه المناسبة منجزه الشعري وتحولاته السياسية والاجتماعية على مدى سنوات عمره التي أفناها في خدمة الشعر، وتميزت قصائد الجواهري بالتزام عمود الشعر التقليدي، وبجزالة في النسيج، كما تميّزت بالثورة على بعض الأوضاع الاجتماعية والسياسية، فتعرض للمضايقات؛ ما دفعه إلى مغادرة العراق العام 1961، ولم يعد إلا بعد العام 1968 بدعوة من الحكومة العراقية.
اشتغل الجواهري بالتعليم في فترات من حياته، وبالصحافة في فترات أخرى، فأصدر جرائد “الفرات” ثم “الانقلاب” ثم “الرأي العام”، أول دواوينه كان بعنوان “حلبة الأدب” الذي صدر عام 1923 وهو مجموعة معارضات لمشاهير شعراء عصره كأحمد شوقي وإيليا أبي ماضي ولبعض السابقين كلسان الدين بن الخطيب وابن التعاويذي.
وتوفي الجواهري يوم 27 تموز 1997 في دمشق، فدُفن في مقبرة الغرباء في العاصمة السورية، وكتب على قبره “يرقد هنا بعيداً عن دجلة الخير”.
وقال رئيس اتحاد الأدباء والكتاب في العراق الناقد علي حسن الفواز لوكالة الأنباء العراقية (واع): “قد تبدو شعرية محمد مهدي الجواهري استثنائية، لأسبابٍ تاريخية، وسياسية، لكنها تمثل من جانبٍ آخر “شهادة” على رؤية المخفي في تحولات الواقع العراقي، وعلى ما تمثله قصيدته، من قوة رمزية، تصطنع نسقاً وجودياً، يجعل من فكرة “الشهادة” تدويناً وفعلاً ورمزاً يستبطن موقفاً سياسياً، مثلما يؤشر منظوراً لطبيعة التشكلات الاجتماعية والسياسية والثقافية، ومدى علاقتها بالصراع السياسي، أو بالتحول الاجتماعي”.
وأضاف: “قراءة الجواهري أنثربولوجيا، قد تكون هي قراءة نسقية للمدينة السياسية، وللغة الاحتجاجية، التي يمكنها أن تجعل من شعريته مجالاً للدرس الثقافي، وللأنساق المضمرة فيها، والتي تتطلب معاينة نقدية، تتقصى أهمية التلازم ما بين الخطاب الشعري، والتمثيل الأنثروبولوجي، فالشاعر الجواهري هو ذاته البلاغي والسياسي والثقافي والإعلامي، وهي توصيفات تضع الحمولة الشعرية له إزاء علائق وجودية، يؤشرها الجواهري في أغلب قصائده، من خلال الاهداءات، أو تذييلها بتواريخ كتابتها، وهي دلالات تدخل في سياق التمثيل الرمزي لما يسمى بـ”النصوص المجاورة” أي أن الإهداء يتحول الى شفرة نصية، والتاريخ يؤشر علاقة القصيدة بالحدث والفكرة وبالشخصية ذاتها”.
مبيناً أن “فخامة الجواهري الشعرية ليست ذات خلاف واضح، فهو حامل لرمزية الأثر الشعري العربي، وحتى لصورة “الفحولة الشعرية” وبقدر ما أثارت هذه الحمولة جدالاً في بعض الأوساط الثقافية، لكنها ظلت تملك قوتها، من خلال القوة الاسلوبية والبلاغية التي تستبطنها قصيدته”.
لافتاً الى أن “مقاربة قصيدة الجواهري بوصفها “مجالاً ثقافياً” هي ما يحتاج الى الإضاءة، إذ يضعنا هذا المجال أمام مقترحات قرائية، وأمام كشوفات يمكن من خلالها قراءة الحدث، وقراءة المخفيات التي أهملها المؤرخون، لاسيما في قصائده التي ارتبطت بأحداث سياسية كبرى، بدءاً من ثورة العشرين، ووصولاً الى انقلاب بكر صدقي، والى انتفاضات الشعب العراقي في الاعوام 1948، 1952، 1956، 1958، والتي من خلالها يمكن الكشف عن معطيات لها تمثيلها الرمزي والسياسي، ولها فاعليتها في تحويل الخطاب الشعري، الى رؤية سياسية، والى ممارسة نقدية لها دورها الاخلاقي والوطني والانساني في صناعة التمظهر الثقافي لـ”الرأي العام” ولقوة الحمولات اللغوية، في استنفار الذات العراقية “المقموعة” بمواجهة عوامل الضعف والرثاثة”.
من جهته قال الشاعر الدكتور حسن عبد راضي في تصريح لوكالة الأنباء العراقية (واع): “يقف الجواهري في مقدمة الشعراء العرب المعاصرين الذين جددوا في القصيدة الكلاسيكية، واستطاعوا أن يعبروا بها عتبة جديدة تجاوزاً بها ما أنجزه الإحيائيون من حيث الأبنية والأساليب والرؤى”.
وأضاف: “عاصر الجواهري أحداثاً جساماً وتحولات كبرى ظهرت آثارها في تجربته الشعرية، التي اشتبكت بالواقع السياسي العراقي والعربي لاحقاً، واستثمرت كل معطيات التاريخ السياسي والأدبي في القصيدة، فهو من مواليد السنوات الثلاث الأخريات من القرن التاسع عشر أو السنة الافتتاحية لهذا القرن، ولذلك فإن احتلال الانكليز للعراق فالحرب العالمية الأولى ثم ثورة العشرين وأخيراً تأسيس الدولة العراقية كانت من ضمن الأحداث التي عاصرها، كما أن لنشأته في المناخ العلمي والديني لمدينة النجف الأشرف وقربه من المؤسسات الدينية والصالونات الأدبية في تلك الحقبة كانت من العوامل التي أسهمت في تشكيل تجربته الأدبية ورفد خزينه اللغوي وخياله الأدبي بما لا أول له ولا آخر من الصور والتراكيب والمفردات”.
لافتاً الى أن “الجواهري هو آخر أساطين عمود الشعر الكبار، وأوفرهم إنتاجاً وأكثرهم اصطداماً بالسلطات التي تعاقبت على العراق، ترك تراثاً شعرياً هائلاً ومتنوعاً فضلاً عن مذكراته وكتب أخرى كان لها أبلغ الأثر في إنضاج المشهد الشعري العراقي على مدى قرن كامل”.
وأوضح الشاعر حمدان طاهر المالكي في تصريح لوكالة الأنباء العراقية (واع)، أن “الحديث عن شاعر بحجم الشاعر محمد مهدي الجواهري لا يمكن أن يختزل بكلمات قليلة، شاعر حمل مشعل الضوء والشعر والثورة بيد واحدة وهي مهمة عسيرة لا يمكن أن يقوم بها أحد إلا إذا كان على قدر كبير من المسؤولية والروح الإنسانية الكبيرة، الشاعر الذي ولد نهاية قرن وتوفي نهاية قرن إنها حياة شعرية كاملة بدأها منذ انطلاق ثورة العشرين والمشاركة الفعلية فيها حتى وفاته في دمشق”.
وأشار الى أن “الجواهري هو آخر شاعر كلاسيكي فذ حافظ على هيبة القصيدة العمودية من الترهل والضعف فقصيدته قصيدة فخمة وجزلة ذات لغة عربية نقية هي أقرب في أغلب معانيها إلى منابع العربية في عصور ازدهارها، ولعل أجمل وصف أتذكره عن شاعرنا الكبير ما قاله الشاعر نزار قباني حين نقل إليه نعي الجواهري من مراسل راديو (مونت كارلو) الفرنسي: (لقد كان شاعراً جاهلياً أموياً عباسياً في عصرنا الحديث!)”، مبيناً: “ترك الجواهري الكثير من القصائد العظيمة التي تكفي لأن تخلده كشاعر كبير يمثل ضمير شعب وأمة، والعديد من الدواوين الشعرية التي كانت إضافة مهمة لتاريخ الشعر العربي، الجواهري الشاعر والإنسان قيمة ثقافية وشعرية للعراق ولأمة العرب يستحق أن يكون أرثه الشعري موضع اهتمام من خلال ملتقيات شعرية وجوائز تخلد اسمه الكبير وهو أدنى الوفاء لشاعر ناضل وكتب أجمل القصائد وقضى حياته في المنافي من أجل العراق”.
من جهته قال الشاعر والإعلامي رياض الركابي في تصريح لوكالة الأنباء العراقية (واع): “شكل الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري، ظاهرة متفردة في الأدب العراقي، فقد عدّه بعض النقاد امتداداً للشعراء الجاهليين، ورغم التزامه بعمود الشعر التقليدي، إلا أنه ضاهى بشهرته كل الشعراء الحداثيين، ويعد الاحتفاء به سنوياً لما يمثله من وجه مشرق في الثقافة العراقية والعربية على حد سواء”.
وأضاف الركابي: “باعتقادي الشخصي سيبقى نجم الجواهري ساطعاً لأجيال عديدة قادمة وستبقى قصائده خالدة تؤرخ لحقب زمنية وأحداث سياسية مهمة في تأريخ العراق الحديث التي تناولها بشكل فني باذخ، وحفظتها الأجيال المتعاقبة عن ظهر قلب، نتمنى كشعراء أن يكون الاحتفاء بالجواهري يليق بقامته الباسقة”.
المصدر : وكالة الانباء العراقية