يمكن لهذه القضية التي تتألف من شقين، وقد أصبحت من القضايا التقليدية والقديمة في الفلسفة الغربية المعاصرة التي أثيرت في منتصف القرن العشرين، من أن تكون من الدراسات الإشكاليَّة في فكر الغرب، الفلسفي، بعد أن واجه الإنسان ما بعد الحداثة العودة نحو الميتافيزيقا رغم نقد فلاسفة الهرمانيوطيقا لحقيقة الإنسان الماهوية، وأقصد بها الفلسفة (التواصليَّة) والجدل التواصلي في الفلسفة المعاصرة.
ويعني بالنسبة لدينا الشيء الكثير في وعي الأزمة الإنسانويَّة، وقد جعلت الإنسان أكثر انعزالاً واغتراباً، في تفسير وفهم المنجز الفلسفي الغربي في معرفة أسباب ظهور حدة التناقضات الفكريّة المتنازعة بين تيارات الفلسفة الغربيّة المعاصرة، التي تقع على شاطئيه الأوروبي القاري (العقلاني النقدي) والأميركي، الأنجلو ساكسوني (البراجماتي السيميوطيقي وليم جيمس وتشارلز بيرس) إلى درجة القطيعة المحتملة بينهما، بيد أن ما نراه العكس، في إمكان الجدل التواصلي الذي مازال قائماً، بعد حدوث المنعرجات المعرفية، كالمنعرج الألسني والمنعرج التداولي والمنعرج الهرمامنيوطيقي للفينومينولوجيا.
فضلاً عن المنعرجات المعرفية الأخرى، كما قرأها الفيلسوف الفرنسي جان مارك فيري في كتابه (فلسفة التواصل) ترجمة د. عمر مهيبيل، فلو أخذنا المنعرج الألسني الذي يعتبر في الأساس أحد المحركات المباشرة في ظهور التواصلية من خلال الثورة الألسنية عند سوسير وبيرس، وقمنا بتعريفه بوصفه مفهوماً مأخوذاً من الألسنيَّة، ويقصد به التزاوج المنهجي بين اللسانيات وفلسفة اللغة، فيصبح عندنا نتيجة ذلك التزاوج مبحث ألسني، يشكل منعرجاً آخر ألا وهو التداوليَّة، أو بتعبير أوستين هو ربط القول بالفعل.
علماً بأن الأب المؤسس للمنعرج الألسني هو ج- فريجه، وتبعه بعد ذلك بخطوات الفيلسوف فيغنشتاين – في كتاباته الفلسفية والمنطقية والرياضية، متأثراً بفلسفة بـ (بنتام) ذاك المنعرج الذي وظفته الفلسفة الغربية المعاصرة في أوربا بالذات في مفهوم التواصلية الفلسفية، وأن يحتفظ بالقاعدية لهذا الجدل التواصلي، حينما أشبعت النظرية النقدية التي تأسست في مدرسة فرانكفورت.
بعد سلسلة من الفكر المتذبذب بين مؤسسيها هوركماير وادرنو وغيرهما، كما ركيوز وأنا أرندت، عندما كانت الحرب العالمية الثانية قد خلقت أجواء من التشاؤمية والعدمية، وتحول العالم بنظر أعضاء هذه المدرسة إلى منحى في التشيؤ والتوتاليتارية، على الرغم من استتباب اللمحة العقلانية في الجانب الأوروبي الصارم من الفلسفة الفرنسية والألمانية، في مقابل الجانب التجريبي الذي عمَّ بريطانيا وأميركا، وبات سمة الفلسفة.
ويعد الاتجاه العقلي والعقلاني النقدي الإنطلوجي في الفلسفة الغربية الألمانية هو الذي أنتج الفكرة الحجاجيَّة التي قامت عليها النظرية النقدية التي وصلت أخيراً للفيلسوفين الألمانيين يورغن هابرماز و كارل آوتو آبل، أثناء و بعد الحرب العالمية الثانية التي شهدت جدلاً واسعاً بين أعضاء مدرسة فرانكفورت من الفلاسفة الذين هاجروا إلى أميركا قبل الحرب.
ثم عادوا إلى ألمانيا بعد الحرب، وقاموا بتصفية حساباتهم مع الفلاسفة الذين بقوا مع النظام، وعلى رأس الباقين فيلسوف الكينونة الألماني مارتن هيدغر (1889 – 1969) بينما كان الخلاف بين من ظلوا في ألمانيا من دون أن يكونوا مع النظام، مثل الفيلسوف الألماني كارل ياسبرس واسعاً لدرجة القطيعة النهائية، بينما كان هيدغر قد أسس في تحولاته الفلسفية من الانطلوجيا إلى الفينومينولوجيا، حتى الهرمانيوطيقا النموذج التأويلي لإنسان ما بعد الميتافيزقيا، بنقده لكل الميتافيزيقيات، عن طريق اهتمامه بالانطلوجيا القائمة على خزان لا ينضب من الأسئلة الإشكالية، التي وقفت صامدة بثبات برغم كل الانتقادات اللاذعة التي وجهت ضدها، واهتمامه الخاص بالكينونة والكائن واللغة في ضوء التأثر الألسني الذي اجتاح الفلسفة الغربية في القرن الماضي مما أدى إلى قيام فكرة التواصل بين قطبي النزاع على تركة فلسفة هيدغر، وهما هابرماز وكارل آوتو آبل، في انحياز الأول نحو التداولية الشاملة باتباعه المنحى التجريبي على وفق الأنموذج الإسمي النومينالي في مقابل الثاني في تداوليته الترانسندنتالية ويبدو أن هيدغر هو الذي أعطى لمفهوم التواصل مقاربته مع أهم نقطتين عايشت تلك الفلسفة في انبثاق الثورة الألسنية، خاصة في مبحث التداولية وقيام حركة نقدية لموروث الفلسفة بعد هيدغر، ويعالج جان غراندان في كتابه (المنعرج الهرمينوطيقي للفينومينولوجيا) على وفق تحولات هيدغر التي انتهت عند فلاسفة مدرسة فرانكفورت التي شهدت في ربوعها وضع حجر الأساس السليم للنظرية النقدية بمعيارية صارمة من خلال المناظرات التي أحدثها أعضاؤها، وكان لا بد لهابرماز وكارل اوتو ابل استكمال مشروع المدرسة في التوجه نحو الجدل القائم على مفهوم التواصل.
في مبادرة هابرماز في نقد هيدغر في مقاله الشهير (التفكير مع هيدغر ضد هيدغر) ورد كارل أوتو آبل عليه بـ (التفكير مع هابرماز ضد هابرماز) الذي وضعه على طريق الشهرة، إن ما قام به هذان الفيلسوفان من جدل حول الإرث الفلسفي لمفهوم التواصلية شرحها جان مارك فيري في الجزء الأول من هذا الكتاب العسير على الفهم، على الرغم من محاولة فيري جهد امكانه تقريب مفهوم التواصل لأذهاننا، مع محاولة المترجم الفذ الدكتور العربي الجزائري الأكاديمي (د. عمر مهيبيل) في إيصال مقاربات فيري لمفهوم التواصل في (من نقيضة الحقيقة إلى التأسيس النهائي للعقل) الذي يضعنا أمام المبررات الفكرية التي قادت الفلسفة الغربية في ترسيخ فكرة التواصلية تحت أنظار العقل الغربي.
وفي مرحلة نهائية في استتباب التأسيس النهائي لظهور نقيضة الحقيقة في أساس التقارب بين الشموليانية والسياقوية مقابل التحولات الألسنية التي تتحكم في فهمنا لحقيقة التقابل بين الحقيقة وقدرة العقل على استدراجها للتناقض، في ما يتعلق بالتأويلات التي يفرضها العقل في حدود التواصل في مسألة الجدل القائم بين التفاوت بين حقيقة التواصلية كفلسفة قائمة، والتواصل كمفهوم يعني عدم ملامسته للحقيقة، ولعل التحدث بصوت المتكلم مع فيري في فهمنا للتواصلية الفلسفية سنجده، مع سيلفيان أغاسانسكي في كتابه (نقد المركزية – – – حدث الآخر) فـ 2 تحت العنوان الصادم لتوقعنا حول الجدل التواصلي للفلسفة: هل تتواصل الفلسفة؟ استقبال وخيبة من هيدغر إلى دريدا، لنفهم خيبة جاك دريدا في الفلسفة من زاوية انتقاده التمييز الأوستيني (الألسني اوستين صاحب نظرية أفعال الكلام وأستاذ سورول) بين العمل الطبيعي، أو الجاد للغة واستعمالها الطفيلي أو غير
الجاد.
من حيث أن جاك دريدا هاجم اللغة من ناحية عدم قدرتها على دعم الفلسفة بما تحققه من تواصل مخيب للإنسان، تاركة إياه يعيش صدمة المستقبل في رأي الكاتب الأميركي ألفين توفلر (صدمة المستقبل المتغيرات في عالم الغد) الصورة البشعة لعالم تواصلي تقني أداتي يستبعد الإنسان من اهتمامه، من خلال وضعه في بؤرة
التشيؤ..
المصدر : وكالة الانباء العراقية