ثامر عباس
لا يكاد يخلو أدب الفكر الاجتماعي والسياسي المعاصر، بمختلف أصنافه وتياراته، وتنوع اهتمامه وتوجهاته، وتعدد مصادره و مرجعياته ؛ من الحديث عن (الطبقة) أو (الطبقات) الاجتماعية؛ إن لجهة تبلورها كمعطى سوسيولوجي يعي ذاته بالمغايرة مع وعي بقية المكونات الأخرى في المجتمع، أو لجهة تصنيفها بين ارستقراطية / عليا، وبرجوازية/ وسطى، ودنيا/ عاملة، أو لجهة علاقاتها البينية واستقطاباتها المتقابلة، هل هي قائمة على أساس التفاعل والتواصل أو التصارع والتقاطع.
وعلى الرغم من كون النقاش حول مكانة (الطبقة) الاجتماعية وبيان دورها في سيرورات المجتمع، فضلا عن وظيفتها في عمليات الإنتاج الاقتصادي والتبادل الثقافي والتداول القيمي، يمتد إلى حقب تاريخ ما قبل الميلاد، لا سيما ضمن أعمال الشهير للفيلسوف الإغريقي (أفلاطون) وخصوصا كتابه المعروف (الجمهورية)، والذي اعتقد من خلاله أن سلامة المجتمع واستقراره يرتهن بضرورة تقسبمه إلى ثلاث طبقات؛ الذهبية والفضية والبرونزية، حيث لكل طبقة مكانتها ووظيفتها اللتان ينبغي المحافظة على الحدود بين طبيعة كل منها، مع مراعاة عدم التخالط فيما بين خصائصها النوعية. بيد أن من الإنصاف الإشارة إلى أن الفكر الماركسي كان من أبرز الأنظمة الفلسفية التي شيدت معمار مفهوم (الطبقة) ببعديها النظري والعملي على حدّ سواء، من منطلق إن كل من (الطبقة) وصراعها (الطبقي) هما الداينمو المحرك للجدلية الاجتماعية برمتها؛ سواء أكان في مجال التاريخ، أو في حقل الاجتماع، أو في مضمار الوعي، أو في إطار الدين، ومن ثم رصد أشكال التناضح بين الطبقات وتشخيص أنماط التلاقح بين الذهنيات.
وكغيره من الأنساق الفكرية الكبرى التي حاولت تغطية كل ما يتعلق؛ بأصل الكون/ الوجود، وطبيعة الإنسان/ المجتمع، وماهية الفكر/ الوعي، بحيث تعطي الحلول لكل القضايا وتقدم الإجابات لجميع المسائل. فقد تعرض الفكر الماركسي للكثير من الإساءات النظرية والتشويهات المنهجية؛ ليس فقط من قبل خصومه ومناوئيه فحسب، وإنما كذلك من جانب المنتمين إليه والمحسوبين عليه – بل ربما تبدو إساءات الأولين أقل وطأة من تشويهات الآخرين – وهو الأمر سمح لبعض الكتاب والباحثين (المتمركسين) التهاون – إن لم يكن التخلي – عن أهم المعايير الاجتماعية والضوابط المعرفية، التي أفضى إهمالها والتفريط بها إلى فقدانهم امتياز الرؤية الواضحة لتضاريس الواقع الاجتماعي، وحرمانهم فضيلة التفكير السليم بأواليات تفاعله واتجاهات حراكه.
وهكذا بقدر ما يكثر الأنصار ويزداد المشايعين لهذا الفكر أو ذاك، فضلا عن تضاعف المفكرين والباحثين بين صفوفه، بقدر ما يتشظى إلى مدارس مختلفة إن لم تكن متعارضة، وينشطر إلى نظريات متنوعة إن لم تكن متناقضة. ومن المفيد التذكير هنا إن الطابع الموضوعي لصيرورات الظواهر الاجتماعية، فضلا عن حتمية تفاعلها وتصادمها وتصارعها وبالتالي تطورها، لا يمنع عنها حالات الاستثناء التي قد تخل بآليات تلك السيرورات الجدلية، كما قد يحصل في حالات (الطفرات) المفاجئة و(الانحرافات) المباغتة و(الانقطاعات) الغامضة. وعلى هذا الأساس، فإن توقعات حصول هذه الحالات وارتفاع معدلاتها ترتبط بطبيعة المجتمعات المدروسة وأنماط ثقافاتها وسياقات تاريخها، من حيث إنه كلما كان المجتمع المعنى أكثر تطورا في مضامير التطور الاقتصادي والإبداع الثقافي والتقدم الحضاري، كلما كان الفرز (الطبقي) بين جماعاته ومكوناته أكثر تبلورا وأشدّ وضوحا، والعكس بالعكس. أي بمعنى ان التكوين (الطبقي) للمجتمع لا يرتبط بالشوط الزمني / التاريخي الذي قطعه ضمن مسار صيرورته الاجتماعية – كما يحاجج البعض عادة – وإنما يتحدد نمط ذلك التكوين بالقياس إلى مدى انخراطه بالسيرورة الحضارية للعالم، مثلما في حجم إسهامه في تجاوز أطوارها البدائية وتخطي مراحلها التقليدية، والانتقال بها، من ثم، إلى أطوار الرقي والتحضر الإنساني. وإذا ما وضعنا (الطبقة الوسطى) العراقية ضمن إطار هذه الشروط والمعايير، سنلاحظ أن عمليات تبلورها على الصعيدين النظري والواقعي قد أعيقت وأجهضت مرارا وتكرارا، نتيجة للظروف والأوضاع الشاذة، التي لم يفتأ المجتمع العراقي من التعرض لها والانخراط في أتونها، بحيث لم يتسنَ لمقومات صيرورة تلك الطبقة من التبلور والنضوج بالشكل والصيغة التي تمكنها، ليس فقط من حيازة وامتلاك تلك المقومات الأساسية فحسب، وإنما حالت دونها والقدرة على اكتساب (الوعي) بدورها التاريخي، والتمكن من وظيفتها الحضارية. ولهذا فقد ساهمت تلك العوامل على وضع عناصر هذه (الطبقة) بين شقي رحى؛ تخلف الشروط والمعايير الموضوعية للواقع من جهة، وضعف القدرات والإمكانيات الذاتية (الوعي) من جهة أخرى.