علي المرهج
يبدو أن لنظرية ابن خلدون في تفسير التاريخ مصداقا في أن التاريخ يمر بدور، ويعني بهذا الدور أن الحضارة تبدأ بمرحلة الصبا ومن ثم الشباب، فالكهولة أو الشيخوخة، وبعيدا عن حساب هذا الدور الذي وضع ابن خلدون للحضارة وعمرها الافتراضي، يزيد أو ينقص، ولكنه كما يبدو يدخل في توقعات ما طرحه فلاسفة (الحتمية التاريخية)
بمعنى ان كل حضارة لها عمر تتقدم فيه، وهناك عمر آخر تأكل الحضارة فيه نفسها وتقتل تقدمها بأدوات كانت فاعلة في تقدمها.. بعيدًا عن نظرية (المؤامرة)، التي لا يمكن نفي وجودها بالكامل، ولكن هناك حضارات كانت متقدمة، بل كانت هي شعلة التقدم والتنوير الحضاري لباقي الأمم، ولكنها أفلت بفعل عوامل خارجية وأخرى داخلية، والداخلية كانت أمرّ وأشد على حضارتنا العربية والإسلامية، فرغم تقدمها في العلوم الطبيعية وفي الفلسفة إلا أنها أظهرت قدرة على رفض المغاير في الثقافة والعلم والفلسفة بعد ان شاركت في صناعة أفضل ما فيه وشرحه وتطويره، كما حصل مع علوم وفلسفية اليونان التي كان العرب والمسلون هم من افاضوا في توضيحها وتوظيفها وفق النسق الحضاري الإسلامي ليُعيدوا إنتاجها بصورة أبهى، فكان منهم المعلم الثاني (الفارابي) ومنهم (الشارح الأكبر) ابن رشد، ولا يقل عنهما الكندي الذي بدأ معه تاريخ الفلسفة في الإسلام.. لا يخفى على أحد ما قدمته الحضارة العربية والإسلامية للغرب بعد انتقال علومها وفلسفتها لمدارسهم! فكانت هناك مدارس سينوية ورشدية لاتينية كغيرها في العلوم الأخرى مثل: الطب والرياضيات وعلوم الطبيعة والبصريات وغيرها.. كتب الغزالي رغم عبقريته في علوم الكلام والشريعة والتصوف والفلسفة ما يُنبئ عن إعلان نهاية التفكير العقلاني الفلسفي في الإسلام، وجاء بعد آخرين مثل (الشهرزوري) وغيره، لتنتقل الفلسفة من المشرق إلى المغرب، ولم يطل بها المقام كثيرًا فحوربت، وكلنا يعرف حادثة (نكبة ابن رشد) وحرق كتبه، ولكن بعض تلاميذه ومريديه تمكنوا من نقلها إلى أوروبا، فكانت أحد اهم العوامل المساعدة في بداية نهضة الغرب. تمكنت أوروبا وبعدها أمريكا من خلق مفاهيم مثل (الحرية الفردية) و (حق التملك) و(المساواة في الحقوق والواجبات) و(الدفاع عن حقوق الإنسان)، وكما يبدو أنهم تمكنوا من زرعها في مجتمعاتهم، وهي حق طبيعي لمواطنيهم، ولكنها ليست حقًا لأبناء جنسهم في مجتمعات أخرى تتضاد معهم في الرؤية وتختلف عنهم في المعتقد!. اللافت للنظر أن ما يحدث اليوم في فلسطين من مجازر يمارسها الإسرائيليون بحق أهل فلسطين وغزة بالذات، وتغاضي الغرب وأمريكا عن هذه المجازر، ودفاعهم عن الإسرائيليين الغاصبين للأرض وسالبي حق أهل الأرض (الفلسطينيين)، وقتلهم وتشريدهم وتدمير مدنهم. يفرض التدين والأيديولوجيا حضورهما بقوة، حتى في المجتمعات الغربية التي قدمت لنا رؤى فلسفية عظيمة في الدفاع عن المواطنة وحرية المعتقد وحق الإنسان في المساواة، ولكنها تنتصر لكل جماعة قريبة منها عقائديًا وأيديولوجيًا!. حضارة فيها (إزدواجية) ستمهد لـ “النكوص
الحضاري”.
الكيل عندهم مختلف مع من هو معهم ليكون على حق، ومن يكون ضدهم فهو على باطل ومصيره معروف. إنها حضارة تعيش في داخلها وفق رؤى الفلاسفة في احترام حق الإنسان في الحياة والرأي وتبني المعتقد! ولكنها ما أن تندك بها ستكشف عن وجهها المُضمر الذي يعيد لك مقولة (دارون) “البقاء للأقوى” أو للأصلح وهم الأقوى حقًا، ويجدون في حضارتهم بأنها الأصلح!. تقوم الدنيا في الدول الغربية وأمريكا ولا تقعد إن تعرضت جماعة أو دولة ما لخطر من جماعة تختلف معها عقائديًا أو دينيًا أو أيديولوجيًا، ولكنها قد تتغافل وتتغاضى عن كل ما يحصل من تدمير هذا المختلف معهم في تبني عقيدة أيديولوجية والقضاء على كل من يعتقد برؤيته!. كلنا شاهدنا موقف الغرب في الدفاع عن أوكرانيا ودعمها، ومحاربة الروس وإحكام الحصار حولهم. لم يكن همهم أوكرانيا، بل السعي على الحد من الأيديولوجيا الاشتراكية التي يمثلها الروس، لذلك يعمل الغرب على الحد من توسع الروس والقضاء عى مطامحهم في إعادة بناء الاتحاد السوفيتي ضربت روسيا أوكرانيا، فإذا بالغرب وأمريكا يُحاصرونها في كل المجالات الاقتصادية والرياضية والاجتماعية والسياسية. والغريب الاغرب أن مفكريهم وفلاسفتهم يكتبون عن “الحق في الاختلاف” وهم يُصدرون رؤاهم لنا، ولكن حكوماتهم لا تلزم بها إن مس أحدهم شعرة من حليف لهم، ولا ينظرون للدوافع والأسباب، بقدر ما يسعون لنصرة هذا الحليف، وإن كان ظالمًا أو على خطأ على قاعدة المثل القائل “انصر أخاك ظالمًا أو
مظلومًا”.
يبدو أن الغرب يكتبون نهاية عصر التنوير ويعودون القهقرى لعقلية القرون الوسطى، ليعودوا يعيشون حالة “النكوص الحضاري” وتراجع دور العقلانية
النقدية.