رعد أطياف
وحدها الولايات المتحدة تعلم النتائج الخطيرة لهذه الحرب.
وهي ليست ساذجة في ما تفعل.
ومثلما تُعد هذه الحرب مسألة وجودية بالنسبة لروسيا فعلى نحو مماثل تعتبرها الولايات المتحدة بالقيمة نفسها، ذلك أن الامبراطورية الروسية-بشهادة زبغنيو بريجنسكي- لا يمكنها أن تكتمل إلا بأوكرانيا.
فمصالح أوروبا وأمريكا، من هذه الناحية، واحدة بالرغم من التراخي الذي تبديه ألمانيا وفرنسا على خلفية أزمة الطاقة وتوريد الغاز الروسي وأسعاره الرخيصة جدًا، فضلًا عن البعد الجيوسياسي، الذي يجعل توتر العلاقات مع روسيا مغامرة غير محمودة العواقب.
لكن ثمة «مرارة» لا يريد أن يتجرعها الأطلسيون، ومخاطرة تجعل حلف الناتو مصراً على إطالة أمد الحرب واستنزاف روسيا، إذ لو اتسعت دائرة الهيمنة الروسية وسقطت كييف، فسيتغير ميزان القوى العالمية، وتفقد الولايات المتحدة مركزيتها كدولة مهيمنة.
الولايات المتحدة لا تحتمل ظهور منافسين دوليين، وبالغة القسوة في هذا الشأن مثلما يخبرنا جون ميرشايمر؛ اسقطت اليابان كدولة مهيمنة في اقليمها الاسيوي، واسقطت المانيا كدولة مهيمنة في اقليمها الاوروبي، ومن ثم اسقطت الاتحاد السوفيتي كإمبراطورية كانت تقتسم الهيمنة العالمية معها وتهيمن على الجزء الشرقي من أوروبا، وستتصدى للصين بقوة لحرمانها من الهيمنة المستقبلية على اقليمها الآسيوي من جهة، وهيمنتها العالمية من جهة أخرى.
ليس هذا فحسب، وإنما ستجردها- إن استطاعت- من احتكار التكنولوجيا المهمة، لضمان احتكار الولايات المتحدة هيمنتها العالمية إلى أقصى مدى ممكن.
ولذلك ثمة حرب غير معلنة على احتكار المهندسين المهرة في صناعة الرقائق الإلكترونية، وحصار شديد القسوة على الصين بخصوص هذا الشأن.
على أي حال، لا قوة يمكنها اقتسام الهيمنة على العالم مع الولايات المتحدة فسيجري تحطيمها بالتدريج إلى أن تظهر معالم انهيارها من الداخل؛ بالحرب الاقتصادية، وحرب عسكرية هجينة، مثلما يحدث الآن، عبر محاولة كلا الطرفين –روسيا وأمريكا- الزج بأكبر قدر ممكن من الجيوش غير النظامية التي لا تحمل صفة رسمية على الإطلاق.
ومهما كان الثمن ينبغي أن يطول أمد هذه الحرب.
لذلك تعد هذه المعركة هي خط الدفاع الاخير لآخر معاقل القوة المتفردة في العالم؛ إما أن يرجع حلف الناتو بقيادة الأمريكان أقوى مما مضى، أو تظهر روسيا مرة اخرى، أي أقوى من السابق، كلاعب رئيس يمكنها أن تحتل مكاناً قيادياً بارزاً في ميزان القوى العالمية.
لكن ينبغي أن نفهم أن روسيا عملاق عسكري لكنها كسيحة اقتصادياً، حسب تعبير الكسندر دوغين، بينما الصين عملاق اقتصادي هائل، فيمكن للاثنين أن يلعبا دوراً تكاملياً في المستقبل، خصوصاً انهما متفقان على رؤية مشتركة؛ عالم متعدد الاقطاب بإدارة الامم المتحدة.
لكن هل سيغدو العالم أكثر اماناً بتعدد ميزان القوى، أم سيكون فوضوياً ما بعد الولايات المتحدة مثلما يذهب زبغنيو بريجنسكي؟ في الحقيقة لا تتوفر لدينا رؤية كاملة للتنبؤ بسلوك روسيا والصين، إن حققا دوراً تكاملياً بالفعل، بخصوص قيادة العالم، فتعدد القطبية ليس بالضرورة يؤدي إلى الاستقرار، والطلب المستمر على موارد الطاقة لا تترجمه النوايا الحسنة، والصراع على النفوذ أقدس من كل الكلمات الدبلوماسية المعسولة.
إذن، وحده المستقبل من له حق امتلاك الجواب القاطع، فحتى ذلك الحين لا تخلو الأحكام القطعية حول المستقبل من الرجم بالغيب.