توفي مظفر النواب أمس، وخُتمتْ بوفاته مسيرة الرائد الحقيقيّ للشعر الشعبيّ الحديث في العراق. ترك مظفر في سجلّ الثقافة العراقية ما لا ينمحي؛ قصائد هي أيقونات شعرية ستظل تتلألأ في سمائنا وأغنيات شكّلتْ ذائقة أجيال متعاقبة. وإلى اليوم نطمئنّ حين نرى شباناً يستمعون إلى “البنفسج” أو “الريل وحمد” أو “حن وأنا أحن” بالتوق الذي كنّا نستمع إليها به في سبعينات القرن الماضي، لأنَّ تلكم الأغاني كانت علامة عافية الغناء والشعر معاً.
مظفر، المنفيّ الأبديّ والمناضل الصلب في وجه الدكتاتورية، الذي حفر نفقاً ليهرب من سجنه، شتّام الأًصنام البشرية شتماً مقذعاً، كان يدّخر رقته في شعره المصفى بماء ذاكرته الرقراق “يا فيّ النبع واطعمْ عطش صبير ولا فركاك”. البغداديّ الكاظميّ مولداً ونشأة والأرستقراطيّ عيشاً، صار ابن الهور بأساطيره ولسان أبنائه الذي استعاره بدلاً عن لسانه البغداديّ الذي نسيه تماماً حتى في حديثه اليوميّ.
مظفر مثال على أننا أبناء اللغة، وأنَّ لغتنا هي التي تستخدمنا أكثر مما نستخدمها نحن، ولهذا، لأنَّ “لغته” العراقية الجنوبية كانت أقرب إلى وجدانه من لغته العربية، فقد كان تقليدياً في شعر التفعيلة المكتوب بالفصحى، لكنه كان حديثاً جداً ومغايراً في شعره الشعبيّ وبخاصة في ديوانه “الريل وحمد” حدّ أنَّ شاعراً كسعدي يوسف تمنى أن يضع جبين شعره كلّه على أعتاب هذا الكتاب.
رحل أبو عادل بعيداً عن وطنه، كسائر الكبار الذين لم تسعهم أرضهم “لنتذكر الجواهري ومصطفى جمال الدين وسركون بولص وفوزي كريم والبياتي أمثلة على ذلك”.
عزاؤنا أنَّ أجيالاً مظفرية شعرية هي الآن الأنقى في الشعر الشعبيّ وأنَّ أغانيه لم تزل مثالاً على رقيّ الذائقة العراقية، وأنَّ جيلاً من الشبان المحتجين ما زالوا يرون في جراحهم الشخصية جراح صويحب.
إلى الملتقى مرة أخرى أبا عادل.
المصدر : جريدة الصباح