مشرقنا العربي والسياسات الدوليَّة

رعد أطياف

ثمة بديهيَّة تسجّلها الوقائع التاريخيَّة، وهي أن الحرية والديمقراطيَّة سياسة داخلية في الغرب، أما السياسة الخارجيَّة فمعيارها المصالح الحيوية، حتى لو تطلب تغييب منطقة بأكملها. وتغدو حقوق الإنسان، والعدالة، والحقوق، لافتة تنشط أدبياتها في حالات الضغط والابتزاز السياسي، من قبل دول المركز على دول الأطراف، غايتها تبرير القوة العسكرية. فتش عن كل الحروب فلا تجد سوى هذه الكلمة السحرية «مصالح».

وهذه الأخيرة تعني: طرق تجارة، منابع طاقة، جغرافية حيوية توصل بين قارتين، موقع ستراتيجي مهم، تهديد أمني لدول المركز وتوابعه.. إلخ.. إذا ما تعرضت هذه الأمور للخطر، أو الابتزاز، أو التحكم، حتى لو كان من الطرف المالك، فسيكون كل شيء مباح، ومن ضمنها الحروب تحت يافطة تحرير الشعوب ونشر الديمقراطية.
فتش عن كل حرب ستظهر أمامك كل هذه المؤشرات.
نظرة القوى المهيمنة للمشرق العربي تتمحور في نقطتين استراتيجيتين: منابع الطاقة، والأمن الإسرائيلي.
النقطة الأولى، لم تعد مهمة بالمقارنة بالنقطة الأولى، ذلك أن النفط الخليجي، على سبيل المثال، لم يعد ذلك الشريان الرئيس لإمدادات الطاقة في الولايات المتحدة مقارنة بالعقود الماضية، ولم يتبقَ سوى نقطة محورية شديدة الأهمية تتمثل في الأمن الإسرائيلي، والتي تعد جوهر السياسة الخارجية لدول المركز، وتتحدد سياستها الخارجية لهذه النقطة الحيوية،.
نحن أمام حاملة طائرات، ومخزن للعتاد للثقيل، وثكنة عسكرية ضخمة، اسمها «إسرائيل» تعدُّ مركز الثقل الستراتيجي للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، وستدافع عنها حتى الرمق الأخير، ويغدو الموت هنا والإرهاب والقتل الجماعي مبررا ستراتيجياً، طالما يضمن التفوق الإسرائيلي، والأمن القومي الأمريكي الذي تجيز عقيدته العسكرية التدخل في أي نقطة توتر في العالم بوصفها تهدد الأمن القومي الأمريكي! مثلما كان العراق، بزعمهم، يهدد الأمن القومي الأمريكي، والحقيقة أنه كان يهدد الأمن الإسرائيلي، وهذه الأخيرة لا حدود لأمنها القومي؛ فالمشرق العربي معظمه يشكل نقطة توتر حرجة لهذا الأمن
المزعوم.
وستكون دول المركز ومؤسساته الإعلامية، والحقوقية رهن الإشارة.
يكفي أن نعرف توجه الإعلام الغربي في العمليات الإرهابية الأخيرة على مدينة غزة، فيتضح الأمر جلياً عن الكيفية التي تتعامل بها هذه المؤسسات «الديمقراطية» مع هذا الحدث المفجع.
يستدعي هذا الأمر الجلل تحشيد الجهود السياسية لضمان الأمن القومي العربي، لكن، وهنا تكمن المصيبة، لا أظن الحكام العرب مؤهلين لمرحلة المطالبة بالحقوق، أو التفاوض من أجل المصالح الستراتيجية، فالضعيف لا يمتلك ترف التفاوض على الإطلاق.
ثمة إشكالية محيرة تلقي بظلالها على واقعنا السياسي: وهي أن القضايا السياسية الكبرى لا تجري بطريقة الانفعال العاطفي، ذلك إن الانفعال- بحسب سبينوزا- يحتاج إلى فهم الطبيعة الكلية، والطبيعة الكلية في مشرقنا العربي، إن صح الاستخدام، هي القضيَّة الفلسطينيَّة، بوصفها قضيَّة جيوسياسية خطيرة تلقي بظلالها على كل مشرقنا العربي وتربك استقرارنا الأمني والمؤسساتي، وتحدد من خلالها المنطق السياسي والاقتصادي الذي ينبغي التعامل به مع هذا الخصم الاستعماري الشرس.
لذلك، إن كان ثمة اهتمام من الحكومات العربية فعلاً بهذه القضيَّة الحيوية، فينبغي اتخاذ موقف سياسي مؤثر في الأوساط الدولية، ووضع حد لما يحدث من هذه الفضاعات اليومية.
الشعوب العربية ذات الأنظمة الشمولية محبوسة في سجون كبيرة، فعلى الحكومات أن تأخذ زمام المبادرة، لكي نضع حدا لكل هذا الخراب.
هذه ليست خطابات شعرية، وليست قضيَّة تنطلق من تعصب ديني، وإنما هي قضيَّة جيوسياسية خطيرة تتحدد من خلالها حياتنا السياسية والاقتصادية، ولا يمكن أن يحدث أي استقرار في المنطقة طالما بقيت هذه القضيَّة عالقة وتنزف دماً ودموعاً بالمجان.