حقوق الإنسان بين الإلزاميَّة الأخلاقيَّة والإلزاميَّة القانونيَّة

أ.د عامر حسن فياض
حول مدى إلزاميَّة حقوق الإنسان ساد بين الفقهاء اتجاهين؛ الأول، لا يقر بهذه الإلزامية والثاني يقر بها. في سياق الاتجاه الأول ذهب بعض الفقهاء إلى أن إعلانات حقوق الإنسان بصورة عامة لا تتمتع إلا بقيمة فلسفيّة وأخلاقيّة أدبيّة، ومن ثم فإنها لا تقيّم بحد ذاتها أي حق بالمعنى القانوني الدقيق للكلمة، بمعنى أنها من الممكن أن تكون موضع ايحاء بالنسبة للمشرّع، ولكن فقط القوانين الموضوعة من قبل المشرّع (القوانين الوضعيّة) هي التي تستطيع أن تخلق حقوق. وعليه فليس بالإمكان التمسك أمام القاضي بنص وارد في إعلانات حقوق الإنسان ذلك لأن هذه الأخيرة لا تتمتع بمغزى قانوني.

إنّ هذا الرأي قد اعتمده الفقيه (اسمن) فقد ذهب إلى الاعتقاد بأن إعلان حقوق الانسان لا يمكن أن يمتلك قوة القانون الوضعي ذلك لأنّه لا يملك خاصية القانون الوضعي فهو لا يعدو كونه نوعاً من العرض العقائدي، أي نوع من النظرية السياسيّة والاجتماعيّة تمت صياغتها من قبل مشرّع فيلسوف، مؤكداً والكلام للفقيه اسمن: «أن إعلانات حقوق الانسان تأتي عن هيئة تملك سلطة شرعيّة وتتمتع بالسيادة تتأتى عن مجالس تأسيسية (دستوريّة) ولكنّها لا تمثل مواد قانون محددة وقابلة للتنفيذ، إنّها بالدرجة الأولى والأخيرة محض إعلانات عن مبادئ».
كما اعتقد هذا الرأي الفقيه (كاره دي مالبريك) فقد أكد وهو يتحدث عن «إعلان حقوق الإنسان والمواطن» الفرنسي الصادر عام 1789، مبيناً أن هذا الإعلان لا يتضمن إلا الإعلان عن مفاهيم القانون الطبيعي التي كانت السلطة التأسيسية (الدستوريّة) الفرنسية قد استوحتها في حينه، والتي كان لها تأثيرها الكبير بالنسبة لتكوين القانون العام الفرنسي.
ثم يضيف (مالبريك) بأن هذا الإعلان لا يمكن أن يعتبر نصا قانونيا يمتلك فعالية القانون الوضعي.
فهو ليس إعلانا بحقوق، إنما يمثل فقط إعلانا بمبادئ.
إنّه ينتهي إلى وضع قواعد قانونيّة بقيت من الناحية العملية مجردة من العقاب ولا تكون موضع تطبيق من قبل القاضي.
غير أنّ هذا الاتجاه كان موضع رفض عام فقد ذهب العميد (دكي) إلى القول أن إعلانات الحقوق ليست أبداً مجرد صياغات عقائديّة أو مجرد منطلقات نظرية تم وضعها من قبل مشرع فيلسوف، وإنما هي بالاحرى قوانين وضعيّة.
والأبعد من ذلك أن العميد (دكي) يؤكد أن إعلانات الحقوق تلزم ليس فقط المشرّع العادي وانما كذلك المشرّع التأسيسي (الدستوري) فإذا ما قام المشرّع بوضع قانون من شأنه أن يخرق واحدا من المبادئ المصاغة في اعلان حقوق الانسان فإن مثل هذا القانون سوف لن يكون دستورياً، وان هذا الاعلان يفرض نفسه ليس فقط على المشرّع العادي وانما كذلك على المشرع التأسيسي (الدستوري) لأنّ اعلان الحقوق هو قانون حقيقي يتفوق على القوانين العادية، بل يتفوق حتى على القانون الدستوري بقدر ماهو متميز عنه.
وهذا ما ذهب اليه العميد (موريس هوريو) فقد رأى أن الاعلانات تمتلك القيمة القانونيّة نفسها التي تمتلكها الدساتير.
فهي تشكل عناصر الدستور الاجتماعي للدولة فلا يوجد هنالك سبب في منحها قيمة اقل من تلك التي يتمتع بها الدستور السياسي، أي ذلك الذي يعني يتنظيم سير عمل هيئات الدولة. وسار في هذا الاتجاه الاستاذ (بردو) عندما أكد بأنه من الضروري الانطلاق من محتوى النصوص الموضوعة موضع النقاش فمن الملاحظ في اعلانات حقوق الانسان وفي الديباجات، وحتى في هياكل الدساتير وجود نصوص تميل ليس بطريقة مباشرة إلى تنظيم السلطات العامة، وكذا إلى البيئة الاقتصادية، والفلسفة الاجتماعية والسياسية للنظام القائم. ويضيف الاستاذ (بردو) أن هذه النصوص تتضمن قواعد ذات طبيعة قانونية بل وقيمة دستورية.
وقد أخذ بهذا الرأي (موريس ديفرجيه) في معرض حديثه عن (إعلان حقوق الإنسان والمواطن) الفرنسي، فأكد أن هذا الاعلان يتمتع بقيمة تشريعية خاصة ترقى به إلى مستوى الوثيقة الدستورية.
إنّ الحجج التي قدمت لإسناد هذا الاتجاه وترد في صالحه تنطلق من أبعاد متعددة منها التاريخي حيث أن إعلانات الحقوق كانت قد اعتبرت مع الحركة الدستوريّة في القرن الثامن عشر جزءاً لايتجزأ من المقومات الدستوريّة.
والحجة الثانية تنطلق من البعد الاجتماعي حيث يشكل إعلان الحقوق العنصر الرئيسي في الدستور الاجتماعي على أساس أن كل دولة تمتلك بالضرورة وفي الوقت نفسه على رأي العميد (موريس هوريو) تمتلك دستورين:- دستور سياسي ودستور اجتماعي.
إن الأول هو ذلك الذي يضع أسس النظام الاجتماعي الذي تعيش بموجبه الجماعة التي تبدو في شكل دولة والذي يقوم في الوقت نفسه بتعيين طبيعة العلاقات ما بين المواطنين والدولة أي يعيّن في حالة النظام الاجتماعي الفردي الحقوق الفرديّة للمواطنين.
عليه اذا تم التسليم بأن الدستور السياسي هو وثيقة قانونية تمتلك قيمة متفوقة بالمشروعيّة فينبغي أن ينسحب مثل هذا الاعتقاد على الدستور الاجتماعي الذي يشكل إعلان الحقوق عنصره الرئيسي.
وهناك حجة أخرى يمكن استشفافها من الوسيلة المكرّسة لحماية حقوق الانسان ألّا وهي الرقابة الدستوريّة على القوانين، أي تلك الرقابة المخصصة لضمان تطابق القوانين العادية مع الدستور والتي ينبغي أن تقوم لصالح المواطنين وحقوقهم.
وهذه الرقابة ستفرض، أن حقوق الانسان تتمتع بالتفوق على القوانين لتتم محاكمة هذه القوانين بموجبها وإلا فعلى اي أساس تتم مثل هذه المحاكمة؟.
إن مثل هذا التفوق سوف يمنح الانسان قيمة دستورية، وربما فوق الدستورية.
بمعنى آخر أن حقوق الانسان سوف تتمتع بالرفعة والسمو، ومثل هذه الرفعة وهذا السمو لا يتوافران إلا بالنسبة للقواعد الدستوريّة.
فرقابة دستوريّة القوانين العادية بموجب حقوق الانسان يفترض أن هذه الحقوق الاخيرة تتمتع بطبيعة دستوريّة.
إنّ هذا الرأي الذي يعتمده الفقه الدستوري يعززه التطبيق العملي.
فالطبيعة الدستورية لإعلانات الحقوق تتأكد اذا ماتذكرنا أنّها كثيراً ما تدمج بالدساتير لتتخذ الحقوق فيها صورة الديباجة.
وهذه الممارسة سرت سابقاً بالنسبة لفرنسا. فالدستور الفرنسي الصادر عام 1791م اعتمد في ديباجته إعلان حقوق الانسان والمواطن الفرنسي الصادر عام 1789م .
كذلك الدستور الفرنسي الصادر 1946م كان قد توج بإعلان الحقوق، وكذلك الحال بالنسبة للدستور الفرنسي الصادر عام 1958م.
أما بالنسبة للدول النامية فيلاحظ الاتجاه نفسه، فدستور (التشاد) ودستور (التوكو) الصادران في أعقاب الاستقلال مباشرةً كانا قد توّجا بإعلان الحقوق، وتأكدت الطبيعة الدستوريّة لاعلانات الحقوق بشكل اكثر إذا ماعلمنا أنها تدمج بالدستور نفسه وليس فقط في صيغة ديباجة الدستور، وانما اكثر من ذلك في صيغة مواد، لتجد نفسها إلى جانب المواد الاخرى التي يتكون منها الدستور.
إن هذا ما حصل أول مرة بالنسبة لدستور (وايمر) الألماني الصادر عام 1919م ، ثم تم تقليد ذلك من قبل الدساتير التي صدرت في معظم دول العالم في أعقاب الحرب العالمية الاولى التي وجدت أنه من المجدي التأكيد على المبادئ الموجهة للنظام إلى جانب القواعد المتعلقة بالمؤسسات السياسية.
وهذه الطريقة هي التي استخدمت ايضاً من قبل الدساتير التي تم وضعها منذ الحرب العالمية الثانية بوجه خاص.
وهذا ما نلاحظه في سبيل المثال لأغلب الدول الاسيوية والافريقية الناطقة بالفرنسيّة. وبهذا الشكل تأكدت الطبيعة الدستوريّة الإلزاميّة لإعلانات حقوق الانسان على مستوى الفقه الدستوري أو مستوى التطبيق العملي.