(بيت الروبي) ومشانق السوشيال ميديا

 مهند حبيب السماوي

 

تعاني الساحة الفنيَّة، بشقها السينمائي الدرامي، عالمياً وعربياً، من ضعفٍ واضحٍ في التطرق لموضوعات وتحديات العالم الافتراضي، وتسليط الضوء على أثر المنصات الرقميَّة والشركات التقنيَّة الكبرى في المجتمعات وبِنْيتها والدول وسياساتها، وما يترتب على دخولها، بل اقتحامها، حياة الإنسان من تداعيات ونتائج تجاوزت حدودَ توقعاتِ حتى من قاموا بإنشاء تلك المنصات.

وبالرغم من أهميَّة هذا العالم، لم يكن صنّاع السينما على مستوى المسؤوليَّة ومدركين لضرورة أنْ يقوموا بتناول موضوعات وحيثيات هذا العصر الرقمي الجديد، بطريقة دراميَّة ومثيرة لتشخيص مشكلاته، والتحذير من الانغماس به، والتنبيه للطرق المُثلى للتعامل معه، لا سيما من قبل الجيل الجديد الذي يعيدُ العالم الرقمي وتمظهراته تشكيل شخصيته ومسارات سلوكه وآليات تفكيره على حدٍ سواء.

التطرق لعالم مواقع التواصل

وقد جاء فيلم “بيت الروبي”، للمخرج بيتر ميمي والنجمين كريم عبد العزيز وكريم محمود عبد العزيز، في الوقت المناسب، حيث تطرق هذا الفيلم لعالم مواقع التواصل وما يُسببه في بعض مظاهره، من نتائج، أو فضائح، قد تدمر حياة أسرٍ بأكملها، وتشوّه سمعتهم، وتحطم مستقبلهم.

ولأنني لست ناقداً فنياً، ولا علاقة لي بالتحليلات المتعلقة بالجانب الدرامي للفيلم، لذا لن أتناول هذا المجال أو أتطرق للموضوعات المرتبطة بالفن، وسأقتصر على محور اهتمامي منذ سنوات، وهي فضاءات العالم الافتراضي، متوقفاً عند بعض الإشارات المفيدة، والمشاهد الواضحة، والحوارات التفصيليَّة، التي وجدتُ فيها دلالاتٍ تستحق مناقشتها وإبرازها للقارئ.

يبدأ عالم المنصات الرقميَّة وجمهوره بالولوج للفيلم عندما تستقبل، في بداية المشاهد، أسرة إبراهيم الروبي، التي تسكن حالياً في مكانٍ بعيدٍ عن العاصمة، بسبب مواقع التواصل كما سنتحدث عن ذلك لاحقاً، أسرة أخيه إيهاب مع زوجته بهيرة، يجلسون على مائدة الغداء، ثم تبدأ بهيرة زوجة إيهاب، فجأة، بتصوير الطعام وتطلب منهم التوقف قبل تناوله، وهي تتحدث مع متابعيها على منصة انستغرام، وتقول لهم بأنَّها موجودة في مكانٍ بعيدٍ وهادئٍ وطبيعيٍ، فتسأل، مستغربة، الطفلة شمس ابنة إبراهيم، من هم الأشخاص الذين تتحدث معهم بهيرة؟ فجيب زوجها إيهاب بأنَّهم متابعو حسابها، فيأتي ردُّ إبراهيم أخيه: ولماذا يدخل متابعوها الى بيتنا؟ فيطلب إيهاب فوراً منها التوقف، لكنها تستمر في التصوير، فيأتي سؤال شريف ابن إبراهيم الروبي: ما هي الغاية من تصوير الأكل؟ فتجيبه بهيرة: حتى يعرف المتابعون أنَّني أكلت وجبة لذيذة! فيعود ليسألها باستغرابٍ أيضاً، ولماذا يعرفون؟.. وهنا يُحرج زوجها فيجب شريف قائلاً: بهيرة تحب أنْ تشارك لحظاتها الجميلة مع المتابعين، فيغمزه أخوه إبراهيم: تشاركون كل اللحظات؟ فيخجل إيهاب، فيقول: بعض اللحظات.. وأثناء ذلك تشتكي بهيرة من ضعف خدمة النت، وحينها يتدخل إبراهيم فيطلب من بهيرة إغلاق الهاتف، فتطلب منه ثانية أخرى للتصوير، وحينها يخاطب إبراهيم بهيرة بجديَّة أكبر وبطريقة واضح فيها الغضب مكرراً طلبه منها، فتتوقف، وهي مستاءة، فينتهي المشهد الأول (الرقمي بامتياز) وبهيرة غاضبة من إغلاق التصوير.

اقتحام الحياة الشخصيَّة
في هذا المشهد، الذي يشكل أحد أهم تمظهرات العصر الرقمي، مدخلٌ مهمٌ لجوهر الفيلم، فإبراهيم يستنكر ويرفض فكرة اقتحام الحياة الشخصيَّة للناس من خلال تصوير أكلهم وبيوتهم، كما أنَّ الأطفال الذين لم يصبهم بعد هوس مواقع التواصل، يتساءلون عن سبب تصوير الأكل؟ ولماذا علينا أنْ نجعل الآخرين يعرفون ماذا نأكل وماذا نفعل في بيوتنا؟ أما الطفلة الصغيرة شمس، فهي تذهب بعيداً ببراءتها وتستفسر عن الذين تتحدث معهم بهيرة أثناء التصوير.

وحينما يضطر إبراهيم وإيهاب للسفر مع أسرتيهما للقاهرة من أجل إكمال مهمة معينة تتعلق بالورث، يستعيد إبراهيم ذكرى تواجده في العاصمة التي هربَ منها بسبب تشويه سمعته وأسرته بعد أنْ قام مستخدمو مواقع التواصل بتحميل زوجته الطبيبة خطأ وفاة امرأة وابنها، إذ نشر الناس المقاطع في مواقع التواصل ضدها وسط مئات التعليقات التي تهاجمها وتشوه سمعتها، بل بدؤوا بالتعرض لهه ولأسرتها والإساءة لهم لفظياً في الشارع، ما دفع إبراهيم للهروب من العاصمة والسكن في منطقة بعيدة عنها من جهة، والعالم الرقمي من جهة أخرى.

في أثناء بقاء إبراهيم وأسرته في شقة أخيه في القاهرة يحدثُ ما لم يكن متوقعاً، حيث يدخل إبراهيم للصالة خلال تواجد أغلب أفراد الاسرة ومن بينهم بهيرة التي كانت تبث بصورة مباشرة وتتحدث مع المتابعين عن وصفة ماسك للوجه من الجرجير والشوفان!.

فينادي على ابنه الذي كان يرتدي نظارة واقع افتراضي ومنغمساً في اللعب فلا يسمعه وحينها يصرخ عالياً باسمه، فينتبه له الجميع ومن بينها بهيرة وهي تبث مباشرة فيظهر إبراهيم في البث وأمام المتابعين يتجادل مع أخيه، فتقول لهم بهيرة، بأنَّها في بثٍ مباشرٍ أمام الناس، فيبدأ إبراهيم بالصراخ عليها وعلى مجتمع العصر الرقمي فيقول لها: أي ناس تتحدثين عنهم؟ هل تخجلون من مشكلاتنا أمام الناس، وكل شيء في هذا العصر أصبح أمام الناس! فالستر أصبح مفضوحاً، والبيوت تنهار والأطفال تضيع أمام الناس وأنا منهم.. حيث علقوا لنا المشانق من غير أنْ يعرفوا أنَّنا صحٌ أم خطأ، وهو بعبارته هذه يشير لما فعلته مواقع التواصل بسمعة زوجته بعد وفاة المريضة.

وفي اليوم الثاني وبعد أنْ يذهب هو وإيهاب لبيت ابن عمه من أجل التوقيع يتفاجأ بطلب الناس التصوير معه وأخذ لقطات وهو لا يعرف لماذا، حيث يتجمع الناس حوله في عرس ابن عمه الممثل محمد عبد الرحمن، وبالكاد يستطيع أنْ يهرب منهم، ثم يصل لابن عمه، فيطلب منه الأخير أنْ يغني وإلا لن يوقع، ولأنه لا يحفظ الأغاني، لذلك ارتجل كلمات عشوائيَّة شعبيَّة مضحكة بمساعدة إيهاب فيبدأ الحضور بالرقص عليها وبثها بصورة مباشرة على مواقع التواصل.

وخلال ساعات أصبحت أغنيته “التافهة” (ترند) على مواقع التواصل يتغنى بها الناس، فيعود إبراهيم لبيته وهو يحمل الهاتف الذي أهداه له أخوه فيجلس وحيداً ويشتكي من كثرة الرسائل الواصلة لحسابه على انستغرام الذي قامت بإنشائه له بهيرة بعد انتشار المقطع الأول.

دلالات سايكولوجيَّة

وفي مشهد لا يخلو من الدلالات السايكولوجيَّة، والمعاني المرتبطة بإشعارات الحسابات في مواقع التواصل على الهاتف وكيفيَّة تعامل المستخدم معها، يبقى إبراهيم طيلة الليل مع هاتفه وهو يحاول الابتعاد عنه، فرفض، أولاً، الردَّ على الرسائل، ثم جعله، ثانياً صامتاً، ثم وضعه، ثالثاً في مكانٍ بعيدٍ عنه في الصالة، ولكنه استمر في سماع صوت الرسائل والتعليقات في وضع الهاتف الصامت، فخاطب الهاتف، في لقطة مليئة بالسخريَّة: أنا لست كلباً لكي آتي إليك كلما صفرت لي.

ولم يصبر إبراهيم طويلاً على إغراءات إشعارات التفاعل مع حسابه، فجاءه مسرعاً وجلس يقلب به ويقرأ التعليقات وهو معجبٌ ومهتمٌ بها، فنسي نفسه وبقى مستيقظاً حتى الساعة السابعة صباحاً، إذ تفاجأ به أخوه حينما شاهده، وهو ما زال يقرأ، فبدؤوا سويَّة بقراءة التعليقات الموجودة على حساب إبراهيم والتعليق عليها.

ثم يحدثُ تحولٌ مفصليٌ في حياة إبراهيم، إذ يؤجل عودته لبيته بعد اتصالٍ هاتفي من امرأة تمثل شركة تسويق وتريد التعامل معه، وتطلب منه الحضور لاجتماعٍ معينٍ، فيحضر وهو يحملُ معه بحوثاً عن الحنطة والبطاطا، وهي مادة تخصصه كأستاذٍ جامعي، ظناً منه أنَّ هذه المواد هي التي تريد الشركة تسويقها للناس، فتقول له الموظفة بأنَّ لديه سوء فهم، وأنها تريد أنْ تقوم بتسويقه كمؤثر في مواقع التواصل، فيتفاجأ بالطلب والعرض ويقول لها إنَّه لم يفعل شيئاً وليس لديه شيء، فتشرح له الموظفة الموضوع، وتقول إنَّ مهامهم هي العمل على تسويق هذا النوع من الأشياء “التي هي أصلاً لا شيء”، وأنَّ مقطعه الغنائي أصبح يتحدث الناس به، وأغنيته أصبحت (ترند)، وأنَّه كان بإمكانه أنْ يتربح منها أموالاً كثيرة لو أحسن إدارة عمله.

تسويق الأشياء التافهة واللاشيء

هذه العبارات التي كانت تتحدث بها موظفة الشركة تجسد صميم ما يحدث على مواقع التواصل، وهو تسويق الأشياء التافهة واللاشيء وتضخيمها وترويجها، وفرضها على المستخدم، بل انه حينما قال للموظفة إنَّ ما فعله صدفة، أجابت بأنَّ الكثير من أمور المشاهير تبدأ أحياناً بالصدفة، وأنَّ في الفترة الذي ظهر فيها مقطعه لم يكن هناك شيءٌ يشغل الرأي العام لذلك احتلَّ مقطع حديثه هذه المكانة، وأنَّ مهمة شركتها أنْ تُبقي إبراهيم الروبي على الترند أطول فترةٍ ممكنة وأنْ تتربح الأموال من إعلانات هذا التواجد في مواقع التواصل.

وبعد هذا الاجتماع تبدأ هذه الشركة بالتسويق له وإحضاره في أماكن عامَّة، وهو غير مصدقٍ لما يجري، بل أنَّه يتفاجأ في أحد المولات بأنَّ أغنتيه “اهي اهي اهي.. الورئة معانا أهي” قد أصبحت نغمة لبعض الهواتف، وأنَّ “الكاشير” لم يقبل أنْ يدفع له مقابل مشترياته في المول، بطلب من المدير الذى رآه وهو يدخل للمول، ومع عدم تصديقه ما يجري لكنَّه عاش هذا الدور وبدأ الناس يلتقطون الصور معه بوصفه مؤثراً في مواقع التواصل، وتأتي له، بتنسيق شركة التسويق، دعوات لقاءات في الفضائيات والمنتديات، وانتهت به الى أنْ أصبح أحد مشاهير مواقع التواصل الاجتماعي، كما أنَّ زوجته الطبيبة عادت للعمل في المستشفى بطلبٍ من المسؤولة عنها باعتبار أنَّ ما حدث معها شيء من الماضي وعليها أنْ ترجع لممارسة عملها وحياتها من جديد، فضلاً عن أنَّ مركز إيهاب أصبح مكتظاً بالزبائن بعد أنْ بث إبراهيم مباشراً للناس وهو يجلس فيه ويقص شعره. وقد ظهر في أحد المقاطع المهمة ما يكشف أيضاً عن حقيقة بعض سلوكيات المؤثرين وتقييمهم للأماكن، إذ إنَّ شركة التسويق تطلب من إبراهيم أنْ يقومَ بنشر صور مطعمٍ ما في حسابه، ويقول للناس إنَّ طعامه لذيذ ويطلب منهم زيارته، وقد دفعوا على النشر 15 ألف جنيه مصري مقابل نشره للصور، فيعترض بحجة أنَّه لم يزر المكان، فتقول له: عادي، نحن نختصر لك الوقت.

لعبة التسويق وصناعة المؤثرين
ووسط هذا النجاح الباهر الذي يعيشه إبراهيم وأسرته، يحدث انقلابٌ في حياته، إذ يتفاجأ في إحدى الليالي بانتشار مقاطع فيديويَّة تكشف للناس بأنَّ إبراهيم الشهير هو نفسه زوج الطبيبة السابقة التي اتهمت بالتسبب بوفاة امرأة، وتمَّ شنُ حملة كبيرة وضخمة ضده في مواقع التواصل مع إعادة مشاركة المقاطع السابقة بحق زوجته، وإطلاق هاشتاكات لمحاكمتها مرة ثانية، ناهيك عن نشر مقاطع جديدة لزوج الضحيَّة يؤكد أنَّه لن ينسى ما حدث.

وبعد هذه الحملة الكبيرة ضد إبراهيم، يلتقي بالشركة المسوقة له ليكتشف الحقيقة المؤلمة، وهي أنَّ هذه الشركة هي نفسها التي قامت بهذه الحملة ضده، وهي التي تسهمُ بانتشار هذه المقاطع، إذ إنَّ المقاطع الأخيرة له قد قلَّ عددُ مشاهديها لذلك قامت الشركة بحملة ضده، لإرجاع اسمه للترند إذ هنالك أسماءُ مشاهير جديدة تظهر، وبذلك فإنَّ هذه الحملة التشويهيَّة الجديدة ضده هي في صالح إبراهيم بحسب رأي موظفة الشركة، وهو الموقف الذي صدم إبراهيم من تصرف هذه الشركة ولعبة التسويق وصناعة المؤثرين في مواقع التواصل.

وفي أحد مفاصل الفيلم المرتبط بأسرته، نجد شريف ابن إبراهيم في المدرسة يتعرض للخداع الالكتروني، إذ يقوم أصدقاؤه بعمل حسابٍ مزيفٍ لأحدى المراهقات “نانسي” في النادي الذي يشارك به، ومراسلته باسمها من أجل الاستهزاء به؛ وذلك بعد أنْ أغاضهم نجاح شريف في السباحة وحسدهم من شهرة والده، وهو تحذيرٌ من صناع الفيلم وتنبيهٌ على هذا النوع من الخداع المستشري في مواقع التواصل الاجتماعي خصوصاً بالنسبة للمراهقين.

ونتيجة لانتشار هذه المقاطع ضد إبراهيم وأسرته، توقف عمل مركز إيهاب، وبدأت إيمان تتعرض لمضايقات في المستشفى اضطرتها لترك العمل مرة ثانية، الأمر الذي أدى لتدمير كل ما بنوه في هذه الفترة بعد أنْ أصبح إبراهيم مشهوراً، وذلك بسبب موجة الترند والرأي العام المضاد، فيقرر إبراهيم أنْ يهربَ ويعودَ مرة أخرى لمكانه البعيد عن الناس ويوافقه على هذا المقترح إيهاب أيضاً، لكنه يتساءل في جلسة مع الأسرتين في المقطع الأخير: هل نهرب مرة ثانية ؟ ألم نهرب أول مرة، ولم يعجب الناس؟ وعدنا ولم يعجب الناس أيضاً؟ لماذا لا نتخذ القرارات التي تعجبنا ولو لمرة واحدة في حياتنا؟

وهكذا ينتهي الفيلم ببدء الجميع حياة جديدة، فإيهاب أعاد فتح مركزه، وإيمان قدمت لمستشفى جديد وأبلغت مديرها بالحدث القديم، وإبراهيم عاد أستاذاً في الجامعة، إذ في آخر مشاهد الفيلم، وفي مشهدٍ ذي دلالة، يطلب منه تلميذ محاضرة إضافيَّة من خلال بثٍ مباشرٍ لكي يستفيد أكبر عددٍ من الطلاب فيرفض في البداية لكنَّه يوافق ويطلب منهم انتظاره للبث المباشر على فيسبوك وليس انستغرام.

المصدر: وكالة الانباء العراقية