المنهجُ الدراسيُّ والبُعْدُ الغيبيُّ

يعد المنهج الدراسي واحداً من أهم مقومات العملية التربوية بمختلف مستوياتها بدءاً من التعليم الابتدائي أو الثانوي، وصولا إلى التعليم الجامعي، وهذا الأخير يُعد من أخطر المراحل الدراسيّة، بوصفه يمثل المخرجات الأساسية لمسيرة التعلم ورفد المجتمعات والحياة بمتخرجين يحملون تخصصاتهم المتعددة التي تفضي بالنهاية إلى مستلزمات الحياة، وبحسب الحاجات الإنسانية وتطلعات الشعوب إلى مواكبة التطورات العلمية في شقيها الانساني والعلوم الصرفة.

ولأن امكانية المنهج ليست وحيدة وتفردها بمسؤولية تكريس بذرة التطورات ومعطيات الواقع من معرفة علمية، فهو يتعالق مع حامل المنهج أو يكون بحاجة إلى القائم على تطبيقه، فضلاً عن المناخ العام الذي يُلقي بظلاله عليه، أي الحياة الجامعية واشتراطاتها وقوانينها التي ستكون عامة في جميع مناطق الوطن، مدنه ومراكزه أو التخصصات التي يتم تصنيفها إلى انسانية أو علمية، أو شرائحه الاجتماعية، وما يتجاوز ذلك بما يرتبط بفلسفة الدولة نفسها وتوجهاتها، أو خصوصياتها الفكرية والاقتصادية كأن تكون رأسمالية أو اشتراكية وغيرها من التوصيفات التي يصاغ المنهج أحياناً على أساسها.
وعلى الرغم من أن المناهج الدراسيَّة العراقيَّة أو أغلب البلدان الشرق أوسطيَّة (دول العالم الثالث) بنيت في أساسها على مناهج دراسية غربية (أمريكية، وأوربية- فرنسية وانكليزية) من خلال الاستعمار واقتسامه هذه البلدان التي حاول تطبيق مناهجه على مدارسها، وجامعاتها، سواء كان ذلك في مناهج البحث العلمي وطرائقه المعروفة أو مفردات الدرس التخصصي سواء كان نظرياً أو عملياً.
وفي التعليم الجامعي لم يتسم بالثبات لإمكانية استاذ المادة والسماح له من اضافة أو تغيير نسبة محددة تصل أحياناً إلى 30 % من المنهج كل سنة دراسية استجابة لمتطلبات العصر أو التطورات الحاصلة في العلوم أو الازاحات المعرفية التي تشي بها تراكمات التخصص ومعطيات العالم الخارجي، ولأن سلطة الموضوع الخارجي وتوجهات الدولة نحو فضاء محدد يُمكن أن يلقي بظلاله على المنهج نفسه، والمناخات التي تجعل بعض الأساتذة التوجه إلى تضمين الغيبي فيه من خلال يقينهم الشخصي.
فقد تكرست في مناهجنا بعد 2003 هذه الصبغة بشكل واضح من خلال عدد كبير من الأساتذة وطروحاتهم الشخصية التي يتخذ منها الطالب معلومته المعرفية التي تتناغم مع موحيات الفضاء العام وذهابه إلى الغيبي والاسطوري واحياناً الخرافة بشكل واضح.
وهذا ينطبق على العلوم الانسانية والانزياح إلى العلوم الصرفة التي تتقبل مثل هذه الأفكار الغيبية، فالكثير من الطلبة لا يتخذ معلومته على أساس العلم، بل يذهب إلى الغيبي ويقين الذاكرة الجمعية التي تتخذ هذا التصور من دون غيره، وتربط كل التفاصيل الحياتية وجزئيات الواقع المعيش بالمطلق العلوي أو النظرية الشمولية وتحكمها بالجزئي، في اللحظة التي تناقضها الفلسفات الواقعية والمادية بمختلف انشطاراتها وتقترن كل جزئية أو واقعة بأسبابها الموضوعية في ضوء تفسيرات منهجية تتحدد بمفاهيم (الزمان، والمكان، والنوع) وغيرها من المتغيرات، فضلاً عن بنية العقل في تفسير المسكوت عنه في المعرفة الانسانية، بوصفها بنية مركزية يُمكن الركون إليها في العثور على المعنى.
فلقد قال الطالب وهو يتحدث في الفيزياء (بأن الأرض توقفت عن الحركة مرة واحدة في التاريخ الانساني)، وعندما تم سؤاله عن مصدر معلومته فأجاب هو استاذ المادة الذي يقوم بتدريسها.
وهذا لا يتوقف عند تخصص معين، بل يتجاوزه إلى الطب والكيمياء وعلوم الأرض والتفسيرات التي لاحقت الزلازل التي حدثت مؤخراً في تركيا وسوريا بأنها غضب الرب واحالتها إلى قوى مجهولة، في حين أن النظريات العلمية لها تفسيراتها المختلفة، وهو ما يحدث في جزء من الأرض وتفاعلات كيمياوية وعوامل أُخرى مؤثرة بهذا الحدث، أما أن تُحال إلى الغيبي والمجهول وتتضمنها المناهج الدراسية فهذا خلاف حركة العلم وعلاقته بالوقائع والأحداث وكل ما يجري حولنا.
وانشطرت النظريات المفسرة للابداع حول نفسها أيضاً بين ما هو إلهامي غيبي، وما هو تطوري عقلي، وبدأ كل اتجاه يسوق الحجج والأدلة حول صحة اتجاهه، وكثيراً ما يواجهنا ذلك في حقول إبداعية مثل (النظرية التوقيفية) التي تفسر وجود الابجدية العربية والخط العربي بأنها ظهرت بهذه الصورة من دون الأخذ بمبدأ التطور وأثر العقل والتراكمات الزمنية المعنية بهذا المنجز المتحقق، وتصل تفسيرات غيبية بأن الخطاط عليه التوضؤ قبل البدء بكتابة أية نص، وإن لم يقم بهذا الفعل فإن خطوطه ستتراجع تقنياً وعلى مستوى تشريح الحرف نفسه، وهذا التسويق لم يقتصر على التداول الشفاهي، بل يصل إلى التوثيق وتضمينه في المناهج التي يرعاها الاستاذ بما يتسق ورؤيته ومرجعيته الثقافية
والمعرفية.
ولذلك لا بدَّ من إعادة النظر بالمناهج الدراسية بشكل كامل وتخليصها من الغيبي والخرافي ووقوعها ضمن دائرة العلم، والعلم فقط مهما كان تصنيفه إنسانياً أو علمياً صرفاً من أجل مواكبة التطورات الحاصلة على هذا الصعيد.

 

المصدر : وكالة الانباء العراقية