أفول الإبداع الفلسفي

 

علي المرهج

حضرت الفلسفة في الدرس الأكاديمي وفي مؤلفات كثير من الكتاب العرب شرحًا لتاريخها، ولكنها لم تحضر على مستوى الهضم وشيوع التفكير الفلسفي الإبداعي، بسبب هيمنة الفكر الدوغمائي الأيديولوجي والديني، المدعوم من حركات التطرف وضغط الاستبداد، وقمع الحريات وخلل منظومتي التربية والتعليم وإهمالهما.

منذ سقراط الذي تبنى منهج «التهكم والتوليد» القائم على النقد واستفزاز الخصم، والفلسفة تتحرك من جميع الجهات إلى جميع الجهات من أجل البحث عن الحقيقة.

لم يكن (سقراط) يسعى للتقليل من مقدار وعي المحاور، بل لتوليد الفكرة المُغايرة وتجديد الوعي، فلا وجود لوعي من دون وعي مُضاد، وطبقًا لذلك، فلا يمكن القول بوجود مسلمات نهائية في الفلسفة، وإذا كانت لها مسلمات فمسلماتها مؤقتة تبقى خاضعة للنقد والنقاش بشكل مستمر. وهذا لا يعني أن الفيلسوف لا ينطلق من موقف ولا يدافع عن رأيه، إنما هذا الدفاع لا ينبني عنده على «قصدية» التحزب والسعي إليه ولا على أساس أنه يرغب في تبني موقف «إنغلاقي» يسعى لقسر الآخرين وإقناعهم بأن خلاصهم بتبني رؤيته كما يفعل أصحاب الأيديولوجيات والأديان.
من المؤكد أن الدهشة التي تحدث عنها (أرسطو) هي التي اللبنة الأولى في طريق التفكير الفلسفي، فالدهشة حين السؤال عن الأصل في المعرفة والوجود والقيم هو مُشكل، والدهشة في الوصول لجواب عن هذه التساؤلات هي حلَ، ولطالما أدهشنا الفلاسفة بأجوبتهم مثلما أدهشونا غيرهم بتساؤلاتهم، لذلك تكون الفلسفة هي المُشكل والحلَ معاً!.
إن المشكل الأساس في أفول الفلسفة يكمن في عدم قدرتنا انتاج عقل إبداعي نقدي، بسبب عدم تبنينا لمنهج «الشك» بمعارفنا السابقة، ومحاولة هدم «أصنام العقل»، وكسر قيود النزعة المحافظة في التفكير.
هذا هو المنهج الذي اختطه (ديكارت) لا لرفض المعارف السابقة لمجرد الرفض، وإنما لفحص مدى قدرة هذه الأفكار على البقاء أو الصمود أمام التفنيد أو التكذيب بتعبير «كارل بوبر»، والتحقق من صلاحيتها في ضوء تحولات العصر.
هذا العمل لا يقوم به إلا الفيلسوف الذي ينفتح على جميع الأفكار متجاوزًا عُقدة التحيز الأيديولوجي في الدين والمذهب، إذ إن مهمة الفلاسفة كما يقول علي حرب «إنتاج أفكار خلاقة ومهمة، تمتاز ببعدها عن الخصوصية الثقافية.
حتى يوصف خطاب ما بأنه فلسفي ينبغي أن تكون من سماته المسؤولية والاستقلالية والذاتية كي يوصف بأنه إبدع فلسفي؛ وهذا ما فعله الفلاسفة في العصر الكلاسيكي العربي، ذلك أن المفكر العربي في تلك الفترة لم يفكر تحت تأثير وعيه لهويته الجمعية، كما تشهد على ذلك بعض الأعمال الفكرية البارزة، والتي لا تشير غالباً إلى هوية عرقية أو دينية أو جغرافية، كالمدينة الفاضلة للفارابي، أو الإشارات والتنبيهات لابن سينا، وهذا هو شأن الأعمال الفكرية الكبيرة، كما هو الحال في كتاب ديكارت «مقال في المنهج»، الذي لم يعد شأنًا فرنسيًا، بل أصبح مُلكًا لكل من يعنيه أمر المنهج، وكما يقول محمد وقيدي في كتابه (بناء النظرية الفلسفية): إن «الأنا أفكر» الديكارتي الأوروبي، «قد أصبحت له قيمة شمولية على الصعيد العالمي».
كذلك الحال مع «نقد العقل المحض» أو «ما التنوير» لـ «كانط»، أو «الوجود والزمان» لـ «هيدكر»، أو «حفريات المعرفة» لـ «فوكو»، وكلها عناوين لا تفقد خصوصيتها الوطنية والقومية أو الثقافية، ولكنها في الوقت نفسه خطت لوجودها الإنساني تشكيلاته الأبستيمولوجية، كونها تُشي بصيرورة المفكر الحر الذي يعي مُشكلات بني جنسه الخاصة والعامة، وهو ذات الأمر الذي جعل أعمال هؤلاء الكبار من المفكرين والفلاسفة توضع في رفوف المعرفة الحُرة، التي لا يُمكن تصنيفها على وفق تحولات الزمان والمكان، أو الجغرافية والتاريخ.
ولو قسنا رؤى هؤلاء المفكرين وغيرهم ممن وضعتهم موسوعات الوعي الإنساني الحُر في قائمة الصدارة، مع نتاج مفكرينا العرب، لوجدنا أن هناك سنينًا ضوئية بين وعي «مؤنسن» عند هؤلاء، ووعي مؤطر بأُطر عقائدية، وإن كان فيها بعض من الانفتاح، فهو انفتاح مشوب بالتشكيك في حق «الآخر» المختلف والمغاير.